هل سيكون الرئيس القادم لتونس إسلاميا؟
نظريا لا شيء يمنع من ذلك أو يجعل كرسي قصر قرطاج حكرا على العلمانيين فقط، لكن أي فرق سيجده التونسيون بين أن يختاروا لمنصب الرئيس مرشحا كلاسيكيا يتبنى من بين ما قد يتبنى خط بورقيبة ورؤيته لعلاقة الدولة بالدين، أو أن يكسروا القاعدة قليلا ويفضلوا بدلا عنه مرشحا مغايرا يكون منتسبا للمحافظين أو للإسلاميين؟ إنهم يملكون حرية القرار ومع ذلك فهم ليسوا مشغولين أو متحمسين للتفكير في بالبحث في مثل ذلك الفرق، أو بالاهتمام أصلا في طبيعة المرشحين، أو في طريقة تفكيرهم، أو حتى وعودهم وبرامجهم.
وليس هناك بالمثل ما يشير من خارج المشهد السياسي المحلي على أن تغيرا مفاجأ قد طرأ على جدول أعمال الديمقراطية التونسية، وجعل جرس السباق نحو قصر قرطاج يدق متقدما بأكثر من سنة عن موعده المقرر دستوريا أواخر العام المقبل، أو أن المرشحين المعنيين بالمشاركة في ذلك السباق قد انطلقوا بالفعل في خوض غمار المنافسة على الكرسي الأكثر رمزية في البلاد، من قبل أن تعطى لهم شارة البدء الرسمية.
لكن من يراقب ما يجري في تونس على مدى الشهور الأخيرة من صراعات ومناورات وتحالفات ومطالبات بإسقاط الحكومة، أو بالحفاظ عليها مع تعديل تركيبتها، سوف يخرج باستنتاج بسيط وهو أنه بقدر كسل التونسيين وتقاعسهم في الغالب عن إنجاز الاعمال المطلوبة منهم في آجالها، فإن أشياء كثيرة في بلدهم مثل، الانتخابات الرئاسية باتت تطبخ وتعد من وراء الستار وقبل وقتها بزمن طويل نسبيا. وربما كان الأمر سيبدو مقبولا، بل حتى عاديا وطبيعيا لولا أن آخر ما قد يتطلع إليه هؤلاء اليوم، في خضم الأزمات الصعبة التي تحيط بهم من كل جانب، هو أن يعودوا مجددا إلى صناديق الاقتراع بجيوب شبه خاوية وضمائر وعقول مشتتة وغير واثقة تماما بالمستقبل. ولكن السياسيين يرون تلك العودة ضرورية لبقاء التجربة على قيد الحياة، ويقولون بأن انتخابات العام المقبل سوف تكون الحلقة الختامية في مسلسل انتقالهم الديمقراطي، الذي استغرق حتى الان اكثر من سبع سنوات. ومع ذلك فلا أحد منهم يستطيع أن يجزم الان إن كانت تلك الانتخابات ستجري في موعدها المقرر؟ أو على أي نحو ستتم؟ وإلى اين يمكن أن تقود تونس بالتحديد؟ وهل إنها ستكون بالفعل إضافة فارقة سترسخ أقدام ديمقراطية تحقق تداولا حقيقيا لا شكليا على السلطة، أم لا؟ إن جوهر التساؤل الحاد هنا، وبغض النظر عن طبيعة الشخص أو الحزب الذي سيخرج منتصرا من سباق الرئاسيات، هو في ما إذا كان سيحصل تغير جذري يجعل ما كان يبدو مستبعدا وغير مقبول بالمرة، بل حتى شبه مستحيل أمرا عاديا وواردا؟ أم أن القلاع القديمة ستبقى محصنة ومغلقة بوجه أي تجديد، ولن يصير ممكنا مثلا أن تظهر في تونس في أعقاب تلك الانتخابات نسخة ناجحة ومعدلة من تجربة رئاسة إسلامية لم يكتب لها أن تعمر طويلا في مصر؟
إن ما يجعل ذلك مطروحا بقوة هو أن قصر قرطاج الذي يشكل عصب السلطة في تونس ومركز ثقلها المعنوي، وصندوق أسرار حقب وأجيال عديدة حكمتها على مدى أكثر من ستين عاما، لم يعد مستعصيا على الإسلاميين، أو بمنأى عنهم. وربما لم يكونوا يوما أقرب للوصول إليه مما هم عليه الآن بالفعل. لكن قادة حركة النهضة لايزالون رغم ذلك يفضلون أن يعطوا الوقت للوقت، بحسب المثل المحبب للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران، محتفظين بجزء مهم من الاوراق التي بحوزتهم لاستخدامها في الأوان المناسب، الذي يجعلهم بمنأى عن تقلبات ومفاجآت الظرف المحلي والاقليمي غير المأمونة. إنهم يكتفون بالرد كلما طرحت عليهم الصحافة المحلية أو الأجنبية سؤالا حول هوية مرشحهم للانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي ما اذا كان هو الشيخ الغنوشي أم لا؟ بان أن الامر يبدو سابقا لأوانه وان كل الفرضيات والاحتمالات تبقى ممكنة ومفتوحة للبحث والتداول في اسم الشخصية التي سيختارونها للسباق من أجل الوصول لقصر قرطاج. والشيء الوحيد الذي يستطيعون تأكيده بشيء من الثقة والوضوح، هو أنهم لن يكونوا هذه المرة غير معنيين لا بالترشح أو بالترشيح لذلك الاستحقاق، مثلما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حين أعلنوا في بيان رسمي أن حركتهم لن تدعم أي مرشح للمنصب، وأنها ستلزم الحياد وتكتفي بنصح أنصارها باختيار الأصلح «في كنف المسؤولية وتقدير المصلحة الوطنية واختيار المرشح الذي يضمن حماية مكتسبات الثورة واستقرار البلاد»، بل سيقدمون الان مرشحهم، إما من داخل النهضة أو من خارجها. ومع أن مثل ذلك الرد الدبلوماسي لا يشفي ابدا غليل الصحافيين ولا يجعلهم قادرين على معرفة من تكون تلك الشخصية، حتى حين يحاصرون الشيخ الغنوشي ويعيدون عليه الاستفسار نفسه أكثر من مرة و بأكثر من طريقة، فإنه يحمل في طياته أيضا إشارة واضحة إلى أن جانبا مهما من طبيعة التوازنات المحلية والاقليمية قد تغير لصالح الإسلاميين التونسيين، وأن هناك بوادر على أن المعادلات والعوائق القديمة في طريقها للتفكك بشكل تدريجي.
لقد كان خيارهم بعدم التقدم للمنافسة على منصب الرئاسة في السابق، أي مباشرة بعد التغيرات التي حصلت في اعقاب مغادرة بن علي للبلاد، مبنيا على قراءة واقعية للظرف المحلي والإقليمي، الذي لم يكن مناسبا في تقديرهم لأي عمل قد يبدو بنظر مناوئيهم استعراضا غير مبرر للقوة. ولأنهم كانوا يدركون رمزية قصر قرطاج التي لم تخفت رغم تقلص صلاحيات الرئيس، فقد فضلوا الاهتمام بالمنافسة على المجلس التأسيسي ثم البرلمان، ما سمح لهم برئاسة الحكومة في مناسبتين، ثم المشاركة في باقي التشكيلات الحكومية. وربما قادتهم تلك الواقعية نفسها لأن يضعوا أيديهم بيد المنافس الوحيد للرئيس والمرشح الرئاسي الثوري، الذي كان إلى عهد قريب حليفهم ويساهموا بشكل ما في وصول الباجي قائد السبسي لقصر قرطاج، ثم في تثبيت أسس حكمه وفقا لقاعدة التوافق التي كان الشيخ الغنوشي واحدا من أعمدتها.
ولكن القصة لن تتوقف عن ذلك الحد. فقريبا سيواجهون أكثر من فرضية، فإما أن يعيد الباجي ترشيح نفسه للمنصب وساعتها لن يكون الشيخ الغنوشي «مرشحا ضده أو منافسا له» مثلما أقر بذلك بنفسه لصحيفة «الشروق» المحلية أو انه لن يترشح، وحينها يكون لكل حادث حديث لأن «الترشح للرئاسة أمر تتداخل فيه معطيات عديدة منها طبعا ما هو وطني، ولكن هناك ما هو إقليمي ودولي، وتنزيل ذلك المبدأ له حسابات الزمان والمكان»، مثلما أكد في المقابلة نفسها. أما هل يعني ذلك أننا سننتظر مزيدا من الوقت حتى تتشكل كل تلك المعطيات في أذهان الاسلاميين؟ من المؤكد انهم لن ينجذبوا بسرعة وراء بريق قرطاج لأنهم يدركون جيدا انه ليس كل ما يلمع ذهبا، وان اقناع التونسيين بأن هناك فرقا حقيقيا بين مرشح رئاسي اسلامي واخر علماني لن يكون مجرد فسحة سهلة وبسيطة.
نزار بولحية
القدس العربي