جان جاك روسو
كلما تقدمنا في العمر زاد الخوف الذي يسكن صدورنا، فتحول الخوف من الظلام، والذئاب التي سردت لنا في قصص ما قبل النوم إلى هاجس، السجن الذي رأيناه في الرسوم المتحركة متجسدا في غرفة صغيرة بادرة تحول إلى وطن كبير، والأضواء التي انطفأت ليلا، أصبحت تطفئ في العقل والقلب في وضح النهار، والذئب الذي التهم جدة القبعة الحمراء أصبح يلتهم حقي وحقك، ويلبس ثياب المصلح والواعظ الذي لا نشكك في نواياه، تضخم الخوف، وتعاظمت في النفس سبله، حتى أصبحنا نلهث خلف السرائر مبتعدين عن العالم، معتزلين الواقع.
كل ما نحصل عليه ونحن نكبر يكبلنا، يربط ألسنتنا، ويقيد فكرنا، يتحول الحق إلى هدية يتكرمون عليك بها، فتنكمش أفكارك خوفا من نقدهم، ورعبا من سلبها، تتحصل على وظيفة بمجهودك العلمي المتحصل عليه، تدرس وتتعب، ثم تجتاز مسابقة التوظيف بين الملايين، وتفوز، تفرح وترتاح، لن تدوم هذه الزغاريد طويلا، حتى تتحول في لحظة إلى دمية القش، بخيوط متدلية، لا يراها العام والخاص، شفافة، تتمثل في قرارات تملى، وتعليمات تكتب، قد لا تتوافق مع فكرك، ولا مع تربيتك، تكسر أخلاقك، وتهزم استقامتك.
يرحل الحاكم، وتسجن حاشيته، يتغير الدستور، وتتعدل القوانين، يصبح الوزير مسجون، والسجين حر، فلا شيء يلبث على حاله في هذه الأرض، اللاجئ يدخل وطنه، ويهجر السارق خارج الحدود، وتبقى المواقف، وساما يذكرك بحق ساندته
يصعد الإمام على المنبر لابسا ثيابا بيضاء ومهذبا للحية سوداء منذ الصباح، يحمل في يده عصا يهش بها الأيام، وفي اليد الأخرى ورقة، تظنها للوهلة الأولى تحضيراته الأسبوعية لخطبة الجمعة، فتنهار كل نواياك الحسنة، وهو يستفتح الخطاب بالدعاء للحاكم وحاشيته، تحسن الظن به قليلا فلا يلبث إلا قليلا لتكتشف أنها ورقة من الوزارة الوصية للحكومة الراشدة، ورقة كتبت وفقا للوضع الراهن، ولرغبة الملك، وخدمة لمصالحه، إمام مكبل بالراتب الذي يتقاضاه، قد يتمتم في سره بالرفض لكنه يفكر في الجوع والفقر، يغضب الرب، ويكفر بالرزق، ليرضي حاكما، ويتودد لوزير.
يلبس بدلته، يتفقد سلاحه، ويمضي وفقا لأوامر فوقية، ليوفق مسار مظاهرة سلمية، وجها لوجه مع أخاه، مع من يحملون همه، ويطالبون بخفض أسعار يدفعها هو من جيبه، لا ظالم ولا مظلوم بينهم، كلاهما في خانة واحدة، أحدهم يطالب بصوت مرتفع كاسرا للخوف، وآخر يدعوا الله أن لا تنفلت الأوضاع ويصبح في تعداد المنفذين لسحل وقتل واعتقال وفقا لتعليمات جاءت تحدد ذروة التدخلات، تلك الدنانير التي ينتظرها عند عتبة كل شهر، جعلته يقف مع الظالم، ويكون يده التي يبطش بها، وسلطته التي يرهب بها.
كانت تجهز عتادها لتغطية الحراك، وتتأهب للنزول إلى الميدان، أحدهم يكتب في قاعة التحرير نصا يساند به الشعب، وآخر يتلوه بصوت شجاع، فدعاهم رئيس التحرير إلى اجتماع ليسألهم عن قائمة الأفلام التي فازت بالأوسكار، سحبت منهم الأصوات حين ذكرهم بإسم رجل الأعمال، وبالمال الذي أغرق القناة، وبنهاية بحبوحة الإشهارات، وبتأخيرات في تسديد المنح والرواتب، تضاءلت المهنية في عيونهم، وتقطعت أوراق المحاضرات التي صنعتهم، كبلتهم الحاجة، ورمتهم في جب التخاذل والتقاعس.
قد يكون الفقر مؤلم لكن الظلم أشد وطأة على الروح، “أن تموت جوعا وأنت حر خير من أن تعيش عبدا وأنت سمين”، قد تطرد ليحدث الله بعد ذلك أمرا، يسوق في طريقك دعوة مظلوم، فتستلم هاتفا يحررك من زمن العبودية، قد يضمن لك الرئيس راتبا كل شهر، لكن لن يضمن لك احتراما بين خلجات النفس، وسمعة بين البشر، وبصمة في تاريخك مدى العمر.
يرحل الحاكم، وتسجن حاشيته، يتغير الدستور، وتتعدل القوانين، يصبح الوزير مسجون، والسجين حر، فلا شيء يلبث على حاله في هذه الأرض، اللاجئ يدخل وطنه، ويهجر السارق خارج الحدود، وتبقى المواقف، وساما يذكرك بحق ساندته، ومال أرجعته، وأرض حررتها، ومظلوم نصرته، يهرب المسؤول تاركا تعليماته على جبينك، وورقة في صفحة التاريخ لا تمزق في أرشيفك، وسؤال يزلزل عقلك لماذا اخترت صف الظلم؟ سيكون جوابك مخدرا لكل مؤلم يصيبك: كنت أحافظ على بيتي ومالي، عذر أقبح من ذنب، فالحفاظ على المكتسبات يكون بمعرفة الحقوق، والواجبات، بالبحث والتعلم، وتأكد أن مخالفة قرارات ولي الأمر لا تعد كفرا، ولا تحلل ظلما، يقول مصطفى محمود “إن الحرية لا يصنعها مرسوم يصدره البرلمان، إنها تصنع داخلنا”.