دستور قيس سعيد يؤسس لولاية الفقيه..
بعد تكتّم صدر مشروع “دستور الجمهورية الجديدة” فيالرائد الرسمي وقد حملت فصوله السبعة التي تعرضت للإسلتصورا لاعلميا لمسألة العلاقة بين الدولة والدين قام على الخلطبين المفاهيم وحشر بعضها في بعضها الآخر. خلط وحشر جعلمن تونس بلدا بلا تاريخ متفرد ولا هوية وطنية، بل جزءا منأمة تحكمها شريعة الفقهاء تحت مسمى المقاصد.جاء في الفصل الخامس: “تونس جزء من الأمة الإسلامية،وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيففي الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية”. ولي علىما ورد في هذا الفصل جملة من الاعتراضات كالتالي:1( قوله إن تونس جزء من الأمة الإسلامية قول مبهم ومخاتلقُصد به التعمية، ذلك أن تونس مغايرة للأمة الإسلامية فالذييجمع بين التونسيّين أرض وتاريخ وآمال مستقبليّة أمما يجمع بين المسلمين فانتماء عقدي متطاير وغيرثابت يمتدّ من جاكرتا إلى مضيق جبل طارقويحتوي على قوميات لا عدّ لها ولا حصروثقافات لا جامع بينها ولغات متغايرة،الانتماء إلى تونس له تبعات وحقوق وواجباتيمكن تلمّسها على أرض الواقع ويضبطهالقانون أما الانتماء إلى الأمة الإسلاميّةفهو خلو من ذلك. ترى ما الذي يجمعالتونسي بالباكستاني سوى رابطةمهلهلة لا تمنع حربا ولا تقيم صداقةأو توطدها؟.2( أرجع الفقهاء المقاصدالشريعة الضرورية: “إلى خمسةأشياء : الدين والنفس والعقلوالعرض والمال وقد شرع الإسلاملكلّ واحد من هذه المقاصد الخمسةأحكاما تكفل إيجاده وتكوينه وأحكامتكفل حفظه وصيانته وبهذين النوعينمن الأحكام حُقّق للناس ضروراتهم”) 1(وبَ الفقهاء أن القصد من وضع الدينعلى رأس الضرورات في مبتدإ بناء الدولةوقت أن كانت طريّة العود كان القصد منهالمحافظة على الدولة الوليدة. لذا عُدّت الردّةأيامها خروجا عن الدين الذي هو خروج عنالدولة في نفس الوقت، ولأن الدين اليوم لميعد يمثل مقوّما من مقوّمات الدولة لم يجد الإسلاميون بُدًّا منربط الردّة بخيانة الوطن حتى يبقى حكم التكفير قائما وحتىيتمكنوا من استعماله للقضاء على كل نفس حرّ وكل معارضلهم وهو ما حصل ويحصل.قال عبد القادر عودة: “وتُعاقب الشريعة على الردّة بالقتللأنها تقع ضد الدين الإسلامي وعليه يقوم النظام الاجتماعيللجماعة. فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظامومن ثم عوقب عليه بأشد العقوبات استئصالا للمجرم منالمجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية ومنعا للجريمةوزجرا عنها من ناحية أخرى”. الذي يلفت الانتباه في هذا الفصلقوله: “وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلامالحنيف” حيث ذهب البعض إلى القول بأن هذا الفصل يمنعاستعمال الدين على كل الأطراف السياسية ويحصره في الدولةوحدها. غير أن المسألة يجب أن ينظر إليها من جهة أخرى لأنتكليف الدولة بأن تعمل على تحقيق المقاصد الشرعية يعني أنمحرّر الدستور كفّر المجتمع التونسي أو هو في أفضل الأحوالوصفه بالعصيان فعلى الدولة أن تمارس سلطتها حتى يصبحمجتمعا مسلما تتحقق فيه المقاصد المذكورة ترجمة لما جاء عنعثمان بن عفان: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”وهو ما يمثل انحرافا بالدور الأساسي للدولة في المحافظة علىوحدة البلاد واستقرارها إلى دولة دينية لا همّ لها سوى متابعةمواطنيها في لباسهم ومأكلهم كما يحدث لدى طالبان وإيران.وقد تفطن الفقهاء القدامى إلى خطورة التطبيق الحرفي للحدودالتي هي مربط الفرس في تطبيق الشريعة أو تحقيق المقاصدالشرعية لأن الخطاب فيها واحد وإن تعدّدت الألسنة فأوجدولها شروطا يستحيل توفّرها للحدّ من استعمالها. من ذلك أنهماشترطوا في الزنا أربعة شهود ذكور يعاينون الفعلة معاينةالمرود في المكحلة وأن تكون شهاداتهم في مجلس واحد وإن تخلّفأحدهم عوقبوا على الشهادة زورا. لذا لم يطبق هذا الحدّ طوالالتاريخ الإسلامي إلا مرات قليلة وبالإقرار وكذا في القتل وفيغيرها من الجرائم. فهل ستعمل دولتنا على الانضباط لهذا الفقهوتلتفت عن القوانين الجاري بها العمل؟ ويبدو أن محرّر الفصلالخامس لم ينتبه إلى أن هذا الفصل يفسد على الرئيس حملتهالتي قامت على القضاء على الفساد المتمثل أساسا في الإثراء غيرالمشروع وسرقة الأموال العمومية لأن من شروط إقامة الحدّ فيالسرقة ألا تكون للسارق في المسروق شبهة ملك وهو ما يعنيأن سارق أموال الدولة لا يعاقب شرعا لعدم توفر الشرط المذكورلأن له في أموال الدولة شبهة ملك ولا يمكن أن يحدّ سارق نفسه.هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نلاحظ أن محرّر الدستورتصرّف في المقاصد الضرورية، فأخّر الدين وحذف العقل وأضافالحرية أي أنه أباح لنفسه التصرّف فيها وقدّم مقاصده في ثوبالمقاصد الشرعية والحال أن وصفها الدقيق هو مقاصد قيسسعيد فمن يضمن لنا أنه لن يتصرف مجددا فيها وفي غيرهبهدف إدامة ملكه والقضاء على معارضيه؟ إنّ إضافته مقصدالحرية كما نفهمها نحن وكما هي دارجة في خطابنا المتداوللا علاقة لها بالشرع. وردت مشتقات فعل “حرّر” في القرآنخمس مرات في تحرير رقبة وفي مقابل الاسترقاق مرتينولم يستخدم مصطلح الحرية لدى الفقهاء إلا مقابلالاستعباد. أما ما نجده اليوم لدى الحركات الإسلاميةمن استعمال لمصطلح الحرية كما نفهمها اليوم وبمتحمل من معان حقوقية وسياسية واجتماعية فهومن باب التحيّل حيث ينحرفون بالمصطلحاتعن معانيها الحقيقيّة إلى أخرى بغاية تحقيقمكاسب سياسية. من ذلك أن الغنوشي كتبكتابا سماه “الحريات العامة في الدولةالإسلاميّة” تحدث فيه عن الدستوروالمعارضة والمجالس النيابية والحرياتوغيرها ولكنه في نهاية الأمر يربط كلذلك بضرورة إقامة دولة الخلافة التيهي: “الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيدالإسلامية تبقى هدفا لجهاد الأمة ليحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه بل ينبغيالسعي إليه بتدرّج عبر أشكال مرنةمن الوحدة”) 2(. والغريب في أمر محرّرالدستور أنه ألغى مقصد المحافظة علىالعقل وهو مقصد جليل. يقول عبدالوهاب خلاف: “وشرع لحفظ العقلتحريم الخمر وكلّ مسكر وعقاب منيشربها أو يتناول أي مخدر”) 3(. وقد رتّبالشارع على ذلك مباحث أتى عليها عبد القادر عودة في تشريعهالجنائي حيث خصّص الكتاب الثالث من تشريعه الجنائي لشربالخمر وأحكامه) 4(. فهل يعني هذا أن قيس سعيد ألغى مبحثتحريم الخمر وأننا سنشاهد بعد المصادقة على دستوره رفعللتضييقات التي يتفنن حكامنا في ابتكارها أيام الجمعة وفيرمضان وفي غيرهما؟ والمستفاد ممّا ذكر أن محرّر الدستور ليسير على خط منهجي واحد فتجده يخلط بين الأشياء. فتارةيلغي وأخرى يضيف وثالثة يحوّر دون رابط ودون هدف محدّدأو وضوح في الرؤية.تونس والأمة الإسلاميةجاء في الفصل الرابع: “تونس دولة موحّدة ولا يجوز وضعأي تشريع يمسّ بوحدتها” إلا أن محرّر الدستور سرعان منكص على عقبيه وفتح الأبواب مشرعة لاستهداف وحدة البلاد حيث ورد في الفصل الخامس القول بأن تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة وفي الفصل السادس تصبح تونس جزءا من الأمة العربيّة وهو كلام كان من الممكن قبوله لو وُضع في التوطئة وصفا لوضع ثقافي وحضاري. أما أن تصبح تونس جزءا من الأمتين المذكورتين ويوضع ذلك في فصلين بالدستور الذي يحدّد القواعد الأساسية لتشكيل الدولة ويحدّد الخطوط الكبرى لسيرها فليس إلا تمحّلا في غير محلّه وقيدا للحكم من التصرف وفق ما تقتضي المصلحة. ورغم أن الانتماء إلى العروبة لم يكن مُدسترا سابقا فإنه أقام الدنيا ولم يقعدها لمّا خطب الزعيم بورقيبة في أريحا فاتُّهم بالخيانة والعمالة وقوطعت تونس بسبب ذلك. أما الانتماء إلى الأمة الإسلامية فقد أوجد الطالبان العرب الذين ارتكبوا من المجازر في أوطانهم ما يشيب له الأقرع. كما أدّى الشعور بهذا الانتماء إلى السماح لبعض الدول وتحت غطاء ديني أن تؤسّس حركات سياسيّة مهّدت لظهور إرهاب تعاني منه مختلف الدول التي تنتمي لهذه الدائرة وامتدّ لغيرها. فتونس وإن تكلم أغلب شعبها اللغة العربية وإن دان أغلبه بالإسلام فإن ذلك يجب ألا يخرج عن الإطار الحضاري الثقافي وألا يصبح محدّدا في سياسات الدولة. ومن الخسران والبوار أن تدستر العلاقات بأمّتين لا وجود لهما إلا في سياسات بعض التنظيمات الأمميّة عرقا أو دينا. الترشح للرئاسة ورد في الفصل 89 أن: “الترشح لرئاسة الجمهورية حق لكل تونسي….” وهو ما يعني إقصاء النساء من الترشح لهذا المنصب واستنقاصا لهن وتراجعا عن المكاسب التي تحققت في دولة الاستقلال. فإغفال ذكر المرأة مقصود في هذه الحالة لأن مبحث ترشح المرأة لبعض المناصب في الدولة مُختلف فيه لدى الفقهاء ويذهب أغلبهم إلى منع المرأة من الوصول إلى تولي الولايات العامة وزارة وقضاء. ويبدو أن محرّر الدستور اختار الاستئناس بالفصل 31 من دستور حزب التحرير الذي جاء فيه: “يشترط في الخليفة حتى تنعقد له الخلافة سبعة شروط وهي أن يكون رجلا…” فاعتمد شرطه بشكل متخف يوحي بنسيان التنصيص على المرأة وما هو كذلك في الفصل 88 اشترط في الترشح للرئاسة الإسلام الذي نجده في الدساتير التي عرفها الوطن مثيرا بذلك إشكالا معرفيا وسياسيا. ففي دستور 1959 وهو دستور الاستقلال كان هذا الشرط مساويا لشرط الوطنية لأن الحركة الوطنيّة قامت في جزء منها على التمسك بالدين. فالمتجنس حكم الناس بكفره ورفضوا دفنه في مقابرهم. كما أن وقودها كانوا من أبناء جامع الزيتونة لكل هذا لم يكن مستغربا أن يشترط الإسلام. أما اليوم فإن الإبقاء على هذا الشرط أصبح شكليا ومن نوع الأخذ بالخاطر وتوهّما بمنع مصادمة الشعور الجمعي إن حذف. أركان الإسلام كما وردت عن الرسول )ص( قال: “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان”. فكيف لنا أن نتثبت من إسلام هذا أو ذاك حتى يتمّ التصريح بصحّة ترشحه لمنصب الرئاسة؟ وما العلاقة بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالوظائف التي على رئيس الدولة الإيفاء بها؟ هل نطالب المترشح بالاستظهار بشهادة إسلام مسلمة له من مفتي الجمهورية كما هو حال الراغبين في الزواج علما بأن المفتي كان من بين أعضاء اللجنة التي تبتّ في صحة الترشحات ولكن وقع الاستغناء عنه؟ ثم أي إسلام يقصد محرّر الدستور هل هو إسلام حزب التحرير أو إسلام الوهابية أو إسلام الشيعة المؤمنة بولاية الفقيه في قم أو تلك الموجودة في النجف أو إسلام الأباضية أو إسلام الغنوشي أو إسلام عماد الحمامي؟، في تقديري أن الإبقاء على هذا الشرط: * ينقض مفهوم الوطنية من أساسه لأن الأوطان تُبنى على المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع وليس على التفات لأسباب الاختلاف الطبيعية أو الوراثية من نوع اللون أو اللغة أو الجهة أو الدين أو الجنس. فالمواطن مطالب بالدفاع عن وطنه سواء كان مسلما أو غيره ذكرا أو أنثى. * ويبقي مفهوم الأغلبية والأقلية دارجا في الخطاب. فالأغلبية مسلمون والأقلية ملحدون أو أباضية أو يهود… وهو ما يديم إمكانية استغلال هذا الشرخ من قبل الأعداء والخصوم بالنفخ فيه واستعماله لزعزعة الاستقرار مثلما حدث لدينا في أحداث سنة 2011 لمّا استُغِلّت الأقلية الدينية النهضوية من قبل قوى أجنبية لتخريب البلاد وتدميرها. فمنعا للشر قبل وقوعه تخلصت الدول المدنية من هذا الشرط إعلاء منها لقيمة الوطنية التي هي الجامع الأصلي والرابط الأساسي بين أبناء الوطن الواحد. والذي نخلص إليه أن الدولة التي وردت في هذا الدستور هي دولة دينية بامتياز حيث تنحصر مهمتها في تطبيق مقاصد الشريعة التي تتناول حتى أخصّ الخصوصيّات البشرية لأن أحكام الشرع مثلما فصّلها الفقهاء لم تترك شاردة ولا واردة إلا ولها فيها حكم. فالمحافظة على الدين ستؤدي حتما إلى منع الإبداع وحرية الفكر والمحافظة على النسل ستفتح الباب على مصراعيه للزواج بثانية وثالثة ورابعة وإلغاء مجلة الأحوال الشخصية والمحافظة على الأموال لن يفلت منها أصحاب الأموال والبنوك من الدعوة إلى تمويل صناديق الزكاة. أما عن الحريات فحدث ولا حرج لأنها ستنضبط للآداب العامة الواردة في الفصل 55 تمهيدا لتنقيب النسوة ومنع السباحة في الشواطئ وغير ذلك. فهل كُتب علينا ألا نجد مخلصا من معضلة خلط الدين بالسياسة وخلط الدين بالدولة ؟
أنس الشابي