اخبار سياسية

النهضة.. و بدأ القفز من السفينة التائهة

كتب أنس الشابي

أربكت القرارات الرئاسية الصادرة يوم 25 جويلية الفارط حركة النهضة إرباكا شديدا ظهر في مواقف راشد الغنوشي منذ ذهابه ليلا إلى
مجلس النواب حتى تصريحه الأخير في مجلس الشورى الذي اتجه فيه إلى اعتبار أن ما حدث يندرج في إطار الانتقال الديمقراطي بعد أن سبق له نعته بالانقلاب. كما ظهر هذا الارتباك في المواقف الصادرة عن بعض القيادات والأسماء التي وصل الأمر ببعضها إلى الانسحاب من مجلس الشورى والتصريح بعدم تحمل مسؤولية المواقف التي قد يتخذها.
ومن الجدير بالملاحظة أن ما يبدو أنها خلافات عرفتها الحركة منذ أن كانت في السرية وتمحورت جميعها حول نقد أميرها مثلما كان يسمى أيامها فإن ظروف السرية والتكتم حجبت هذه الخلافات وحالت دون انتشار وذياع أخبارها ليتم حلها بقرارات إدارية وأشهرها
محاولة ما سمي في ما بعد باليسار الإسلامي الذي سعى إلى افتكاك مكتب العاصمة، وهو أكبر مكتب في الحركة، عن طريق عملية انقلابية أعدّ لها احميدة النيفر ولكن جرت الرياح بما لم تشته السفن إذ تفطن لها الغنوشي لأنه هو الآخر صاحب فكر انقلابي ومرّ بتجربة في حزب انقلابي بامتياز هو البعث السوري.
عندها أطرد المجموعة كاملة وأحال ملفها إلى عبد الفتاح مورو الذي ترأس لجنة لم تنه أشغالها إلى حدّ الساعة. وقد روى الواقعة الجورشي في نصّ عنوانه “لا تأخذوا التاريخ من ألسنة السياسيين” جاء فيه: “والذي لم يعش داخل الحركة يستنتج من كلام الشيخ )عبدالفتاح مورو( أن الحركة ولدت ديمقراطية وبالتالي كل من خرج منها
واختلف معها كان لاديمقراطيا ولم يتحمل أو لم يحترم أصول وقواعد الحوار! ولا أعتقد أن صاحبنا قد نسي أن الحركة بقيت سنوات طويلة بلا قانون أساسي وبلا تحديد للصلاحيات وأنها كانت ترى في أي خلاف شرا وتعتبر نفسها الجماعة ويملك أميرها الذي لم ينتخب كل الصلاحيات في تشكيل المكتب التنفيذي والمشرفين على الجهات وأعضاء مجلس الشورى! ولا أظنه قد نسي تلك الليلة المخزية التي وقع فيها حلّ مكتب العاصمة وتجميد عضوية المشرف عليها لا لشيء إلا لأن العاصمة حاولت أن تقود حركة إصلاح وتجديد في جسم إخواني يختنق” .
كما تعرّض صالح كركر إلى الطرد من الحركة بسبب منازعته الغنوشي واتهامه إياه بالضلالة والطعن في شرعيته. وقد روى ذلك الدكتور أحمد المناعي في نصّ خلص فيه إلى القول: “بعد نفيه والذي نذكر بأنه تزامن مع طرده المؤجل )الإعلان عن قرار الطرد من الحركة
صدر بعد عشر سنوات من الطرد الفعلي( تعرّض كركر إلى ما يسمّى في أوساط النهضة بالضرب بأسلحة الدمار الشامل الذي يعني مقاطعة كاملة له ولعائلته ولأقاربه ولأحبابه في كل المجالات وعلى كل الأصعدة من جميع أعضاء النهضة بلا استثناء”.
وما تعرّض له احميدة النيفر وصالح كركر تعرّض له حسن الغضباني في مرحلة تأسيس الجماعة الإسلامية حيث حاول الغنوشي إرساله إلى أستراليا للدعوة ولمّا رفض مُنع من اعتلاء المنابر للخطابة وشُنّت عليه حملة وُصف فيها بأقذع النعوت فغاب عن الساحة الإسلامية تماما حتى وفاته رحمه الله) 3(. تلك هي أهمّ الخلافات التي جدّت في الحركة والأسلوب المعتمد لحلها أيام كانت في السرية وهي خلافات حول القيادة وأسلوب التسيير. أمّا اليوم وبعد حصولها على الشرعية وانتصابها للحكم فقد عادت الخلافات القديمة خصوصا بعد أن أصبحت القيادة قادرة على توزيع المغانم والمناصب التي اختصت بها العائلة وأصحاب الولاء المطلق لتظهر بذلك أسماء جديدة شعرت بالضيم والظلم فاستنسخت الخلاف القديم الذي وجد له حلاًّ في وعد من الغنوشي بعدم الترشح لدورة أخرى بعد المؤتمر العاشر. ولكن ما حصل هو إصراره على البقاء وهو ما أدى إلى خروج أسَُمِّيهِ خروجا مؤقتا من الحركة شمل بعض الأسماء كلطفي زيتون وعبد الحميد الجلاصي وزياد العذاري غير أن الغنوشي في تعامله معهم لم يلجأ إلى الطرد مثلما صنع سابقا لاعتقاده بأنهم لا يمثلون خطرا على موقعه في القيادة. لذلك تركهم يسرحون في الطبيعة إلى أن حلت المصائب على رأس الحركة يوم 25 جويلية دفعة واحدة بين تجميد البرلمان من ناحية والرفض الشعبي ممثلا في حرق مقراتها من ناحية أخرى. وبما أن الحشد الذي دعا إليه الغنوشي ليلا لم ينجح وأظهر ما عليه حركته من ضعف وهوان فإن عددا من المنتسبين اليها فضلوا القفز من المركب قبل أن يغرق فأصدروا بيانات مساندة لتفعيل الفصل 80 أو الانسحاب من اجتماع مجلس الشورى أو الدعوة إلى انسحاب القيادات القديمة وتعويضها بشبان.
وفي تقديري أن جملة هذه البيانات لا تعبر عن موقف مساند لإجراءات الرئيس بقدر ما هي محاولة للتخلص الفردي ممّا يمكن أن يترتب عن فتح ملفات الحركة لأن هؤلاء الذين يظهرون اليوم اصطفافهم مع ما طالب به الشعب كيمينة الزغلامي وعماد الحمامي ومنية إبراهيم وجميلة دبش الكسيكسي و رضوان المصمودي كانوا من الأعوان المستميتين في الدفاع عن كل سياسات الغنوشي طوال السنوات العشر الفارطة ونفذوها بحذافيرها ولم نسمع لهم صوتا معارضا أو حتى ناقدا في الكواليس وحتى خفية لكبرى الجرائم التي ارتكبت في حق البلاد والعباد. أين كان هؤلاء أيام سُفِّر أبناؤنا إلى سوريا وغيرها من بؤر التوتر؟ وأين كانوا لمّا افتضح أمر بؤرة الرقاب؟ ألم يدافعوا عن إمامة المتطرفين كالجوادي والبشير بن حسن ووصل الأمر بالحمامي إلى القول بأنه تم “الاعتداء على أمننا الديني لأن الجوادي عُزل من جامع سيدي اللخمي”؟ ويمينة الزغلامي… ألم تزمجر في المطار مطالبة بتمكين إرهابي من السفر رغم المنع القانوني ) S17 (؟ ثم الكسيكسي وما صنعت في البرلمان من تلفظ بالنابي من الكلام والساقط من القول. أما منية إبراهيم فقد تجرأت على شيخ في سن والدها بقولها له” أنا أرجل منك”. هذا الذي صدر عنهم من بيانات ذكرني بذلك السيل من الاستقالات التي نشرت في الصحافة بعد جريمة باب سويقة سنة 1991 حاملة أسماء قيادات من وزن عبد الفتاح مورو والفاضل البلدي ونور الدين البحيري وبن عيسى الدمني ومحمد المومني وغيرهم كثيرون. هكذا يعيد المنتسبون للحركة التاريخ نفسه… يرتكبون الجرائم ثم يعلنون تبرؤهم منها ثم يعودون بعد ذلك إلى ارتكابها مجددا. طوال العشرية التي أدت بالبلاد إلى الإفلاس والمهانة لم نسمع للذين يساندون اليوم قرارات الرئيس سوى الدعم المطلق لكلّ ما صدر عن الغنوشي من مواقف متضاربة،ولأن الغنوشي يعرف طينتهم جيدا وخبرهم فإنه لم يتخذ مما أتوا أي موقف لأنهم سيعودون إلى حضنه مثلما عاد قبلهم من هو أثقل وزنا وأكثر حضورا كاحميدة النيفر والجبالي والشعيبي والجورشي والمومني وبنعيسى الدمني وغيرهم.

الهوامش
1( مجلة “حقائق” العدد 225 بتاريخ 8 و 14 ديسمبر 1989
ص 3.
2( “صالح كركر كما عرفته” الدكتور أحمد المناعي، جريدة الجمهورية الألكترونية بتاريخ 20 أكتوبر 2020 .
3( عن ذلك انظر “حقيقة الخلاف بين حسن الغضباني وراشد الغنوشي )قراءة في الوثائق(” في كتابي “أعلام وقضايا” نشر دار آفاق، تونس 2015 ، ص 186 .

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق