ورطة الرئيس…

لم يعد بإمكان أحد اليوم القول بأن الخلاف بين رئيس الجمهورية والمكلف بتشكيل الحكومة الجديدة هو محض إشاعة. لقد تكفل السيد رئيس الجمهورية نفسه بإخراج هذا الخلاف للعلن. لن يسعنا الأمر تعداد كل المؤشرات الجدية والتي لا تقبل الدحض عن هذا الخلاف، لكن الأمر المتأكد هو أن السيد المشيشي لم يعد يحظى بدعم الرئيس الذي كلفه بتشكيل الحكومة أربعة أيام قبل جلسة منح الثقة. إمعان الرئيس في الحط من قرارات السيد المشيشي باستبعاد مرشحين لبعض الحقائب الوزارية وفرض مرشحين آخرين قد يعجل بالقطيعة قبل الجلسة الموعودة، بل ربما لم يعد الرئيس راغبا في نيل الحكومة الثقة أصلا إذا كان ذلك هو معنى الإشارات التي أطلقها نحو بعض ضيوفه الهامّين بأنه لا يعتزم حل البرلمان مهما كان مصير جلسة يوم 1 سبتمبر.

هناك مزاجية كبيرة ومتصاعدة في السلوك السياسي للسيد رئيس الجمهورية، مع تدخلات واضحة لجهات قريبة جدا منه في القرارات الرسمية. هذا يدمر منسوب الثقة في عقلانية هذه القرارات ويزيد من توجس الشركاء السياسيين تجاهها. هذا التوجس هو الذي يجعل أهم الشركاء لا يتحمسون كثيرا للوثوق في إشارات الرئيس بعدم اعتزامه حل المجلس. ذهب الرئيس بعيدا في الإنزياح عن دوره التحكيمي وأصبح يبدو، عبر عدد من القرارات في التشكيل الأول والثاني وما بينهما، فاعلا سياسيا مباشرا معنيا بالصراع السياسي المباشر. هذا مثير موضوعيا للتوجس، ذلك أن إعادة بناء الثقة أصبح يتطلب ليس فقط بذل مجهود أكبر من جانبه، بل بالخصوص تواصلا في هذا المجهود.

هل تفطن الرئيس للفخ الذي دخله بقدميه ورغبته: تحمل مسؤولية تشكيلة حكومية بدأ المكلف بها، من زاوية نظر الرئيس ومحيطه، في التمرد عليه، ما يعني أنه لن يتحكم في سير الحكومة العام ولكنه سيتحمل كامل المسؤولية عن أدائها. في السياق الصعب جدا الذي تمر به البلاد، سيكون وصول رئيس حكومة في حالة تنافر مع رئيس الجمهورية كارثة تقضي على ما تبقى من الدولة. اعتقادي أن ما يجب أن يكون دافعا لاستعفاء السيد المشيشي ليس فقط ثأره لكرامته الشخصية، وإنما الحرص على ألا تعيش البلاد هذه الكارثة الإضافية.

هناك سيناريوهات مختلفة يمكن توقعها للأيام القادمة أولها أن يمضي السيد المشيشي لنيل الثقة، متخففا من مساندة رئيس الجمهورية ومُرتميًا في حضن الكتل والأحزاب الفاعلة التي قد تنتهز الفرصة وتفتك المشيشي من الرئيس فتعزل هذا الأخير وتعيده إلى مربع صلاحياته الأدنى. هذا يمثل لدى بعض الأحزاب نوعا من الإغراء، لكن انعكاساته على سير الدولة سيكون كارثيا بجميع المقاييس.

الوضعية الثانية أن يستعفي السيد المشيشي قبل جلسة البرلمان، أو ألا يتمكن من نيل الثقة بنوع من التواطئ بين الأحزاب والرئيس. هذا أمر وارد جدا. في هذه الحالة سيكون الرئيس مجبرا على التوافق مع نفس تلك الأحزاب على تعيين شخصية ترضى عنها، ما يعني أننا أضعنا عبثا أشهرا من التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. في انتظار ذلك سيواصل إلياس الفخفاخ تصريف الأمور، وسيكون معنيّا بفرصة جديدة.

الوضعية الثالثة هو إطالة عهد تصريف الأعمال، وتمكين الفخفاخ من أن يكون في قلب توافقات جديدة تسمح له بتشكيل حكومة وفاقية وتقديمها للبرلمان وهي حائزة على ثقة الرئيس والأحزاب الأساسية. سيمكن ذلك النهضة من إعادة عزل الدستوري الحر، وسيقبل الرئيس والفخفاخ بإقحام قلب تونس في الإئتلاف الحاكم بعد أن يكون الجميع قد فهم دروس المرحلة المنقضية. وضعية لا منتصر ولا مهزوم للجميع، ولكنها تتطلب فاعلين قادرين على التفاوض المثمر والعقلاني. هناك اتصالات بدأت، ولكن لا شيء يؤكد أنها ستصل إلى الغاية منها.

هناك رسالة سياسية هامة جدا تمليها هذه الوضعيات الثلاث، مع عدد من تفرعاتها الممكنة، هو مضي البلاد بعيدا عن سيناريوهات الفصل ثمانين. لكن هناك رسالة أخرى هامة قد تشكل درسا بليغا للسيد الرئيس: لا يمكن أن تنجز كل السياسة بمفردك في تونس. في لحظة معينة، هناك أفكار يجب أن يُماط عن الطريق أذاها، ليس فقط لأنها غير عملية، بل لأن ضررها، في سياق من الأزمة وانعدام الإستقرار، أكثر من نفعها.

عدنان منصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق