قراءة في التحالفات بعد سقوط لائحة سحب الثقة من الغنوشي

تركت لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان استتباعات كبيرة وللتفصيل فيها لا بد قبل كل شيء من إحصاء كيفية توزيع الأصوات خلال التصويت، وفق الكتل والأحزاب الممثلة في البرلمان.

من دعم سحب الثقة من رئيس البرلمان؟ 97 نائباً و هم من قدموا لائحة سحب الثقة منذ البداية، لا تغيير تقريبًا، أي أنهم لم يتمكنوا، رغم المحاولات، من استقطاب حزب قلب تونس لصفهم، وهو ما كان يمثل الحل الوحيد بالنسبة لهم لبلوغ الأغلبية المطلقة 109 صوتًا على الأقل والتي تعني تمرير اللائحة.

هذا من حيث العدد، أما عند التفصيل فهي

  • كتل الديمقراطية (حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب 38 نائبًا)
  • تحيا تونس (10 نواب)
  • الوطنية (11 نائبًا)
  • الإصلاح (16 نائبًا)
  • الدستوري الحر (16 نائبًا)
  • بعض النواب المستقلين.

في الحقيقة، هي محاولات لم تكن خفية أو سرية وإن رُوّج لها بحياء وكأنها ضرورة فرضتها التوازنات. صرح نواب عن التيار مثلاً عن تفاوضهم مع نواب من قلب تونس في الفترة الأخيرة وهو ما أعلن عنه بوضوح نواب من “حزب القلب” أيضًا، ولمح بعض نواب التيار إلى دعوة قلب تونس لدعم حكومة دون النهضة يكون قوامها حزب التيار وحركة الشعب في مقابل تمكين نائب رئيس البرلمان حالياً سميرة الشواشي، وهي نائب عن قلب تونس، من رئاسة البرلمان في حال سحب الثقة من الرئيس الحالي.

الجانب الثاني المعارض لسحب الثقة ممثل أساسًا في كتل حركة النهضة (54 نائبًا)، ائتلاف الكرامة (19 نائبًا)، قلب تونس (27 نائبًا)، جزء من كتلة المستقبل (9 نواب) وعدد من المستقلين وهو ما كانت حصيلته تقريبًا حوالي 120 صوتًا وقد أسقطوا اللائحة ظهر الخميس الماضي.

حافظ تحالف النهضة/ قلب تونس على متانته ظاهريًا على الأقل بعد نتائج التصويت على سحب الثقة من رئيس البرلمان وهي متانة محدودة للأمانة ومتأتية من عوامل مختلفة
تمثل هذه المكونات تقريبًا تحالفًا يعود لنهاية العام الماضي عندما تم تنصيب البرلمان واختيار رئيسه ونائبيه. حينها تكوّن هذا الائتلاف برلمانيًا عبر اتفاق بمنح رئاسة البرلمان للنهضة، أولى الكتل من حيث العدد، والنائب الأول لقلب تونس، ثاني الكتل حينها بـ38 نائبًا. هذا الائتلاف الذي حرصت النهضة كثيرًا وبإلحاح وعلنًا على تحويله إلى القصبة أيضًا، أي إلى الحكومة عبر الدعوة في مناسبات عديدة لتوسيع الائتلاف الحاكم وإدماج قلب تونس، وهو ما رفضه رئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ علنًا ومن ورائه من دعم ترشيحه من أحزاب ورئاسة.

أولى الاستنتاجات هي حفاظ هذا الائتلاف/ الالتقاء على متانته ظاهريًا على الأقل وكان اختبار محاولة سحب الثقة من رئيس البرلمان دليلاً على ذلك، وهي متانة محدودة للأمانة ومتأتية من عوامل مختلفة، فإن كان العامل الايديولوجي أساسًا في العلاقة بين حركة النهضة وائتلاف الكرامة ولذلك غالبًا لم تشتغل بقية الأحزاب على محاولة تفتيت هذا الحلف لمتانة الروابط الايديولوجية، فإن حلف النهضة/ قلب تونس له اعتبارات أخرى، ويستند أساساً لحسابات ومصالح من الطرفين وهو ما يجعل كسرها أيسر منطقيًا.

ثانيًا، من السهل ملاحظة افتقار كل طرف إلى أغلبية مريحة تناهز 150 نائبًا مثلًا كما كان الوضع خلال بداية تحالف النهضة/ نداء تونس في البرلمان الماضي، مما يُعقد حسابات كل طرف ويهدد أي حلف في حال قرر مكوّن واحد ضمنه تغيير الوجهة.

ثالثًا، يضعنا التصويت على اللائحة المذكورة أمام تقسيم جديد ويمكن اعتباره مختلفًا تمامًا عن التقسيم الذى تلى ثورة 2011، بين حلف الثورة وما حمله من معارضين لبن علي على اختلاف تياراتهم في مقابل الأنصار السابقين لحزب التجمع المنحل.

كانت النهضة أول من خالف هذا التقسيم في عدد من المناسبات، كان أبرزها التصويت على قانون المصالحة أو رفضها تمرير العزل السياسي لأنصار بن علي خلال البرلمان السابق.

يفتقر كل حلف إلى أغلبية برلمانية مريحة مما يُعقد حسابات كل طرف ويهدد أي حلف في حال قرر مكوّن واحد ضمنه تغيير الوجهة
وها نحن اليوم نشهد التقاء جديدًا “حذرًا” بين نواب ينتمون لأحزاب عُرفت بارتباط أصحابها بالمنظومة التي عارضت بن علي في السابق مع نواب كتلة الدستوري الحر أو نواب كتلة الإصلاح، والذين ضموا ممثلين سابقًا للتجمع المنحل أو داعمين له أو معارضين بشكل عام للمسار الثوري الذي عرفه البلد إبان 2011.

ماهي أسباب هذا الالتقاء؟ هل يتعلق الأمر فقط كما يُروج لذلك بعض مناصري حركة النهضة بهدف واحد هو الإطاحة بالغنوشي وإبعاد النهضة عن الحكم؟ لا يمكن نفي أهمية هذا الهدف بالنسبة لهذا المحور ولكن هناك أسباب أخرى متباينة سهلت هذا التقارب/ الالتقاء.

إن كانت أهداف عبير موسي وحزبها ومن يشاركها مشروعها في تونس وخارج البلد معلومة ولا تتردد موسي في الإعلان عنها صراحة، فإن بعض الغموض يُرافق تطور مواقف حزب التيار الديمقراطي مثلًا، إذ سبق أن اشتغلت بعض العناصر من هذا الحزب في حكومات واحدة مع حركة النهضة إبان الثورة فلما يُغير التوجه؟

يبدو أن قناعة رسخت عند جزء واسع من قيادات هذا الحزب أن النهضة تُتقن لعب دور المحرّك والمسيطر وصاحب المركز الأول، فيما تترك لحلفائها المرتبة الثانية وما تلاها ويبدو أن التيار مل هذه المرتبة وهذا الدور وقرر مغادرتها بشكل نهائي مهما كانت الاستتباعات.

من جانب آخر وخلال سنوات عديدة إبان 2011، لم تقدم النهضة أية تنازلات لدعم حلفائها، هذا ما يصرح به البعض من هؤلاء الحلفاء بعد فك الارتباطات والحكومات وما تنفيه قيادات عدة من حركة النهضة، ولذلك كان ربما بديهيًا أن ينزعج بعضهم أو كلهم ذات يوم ويغادرون نحو الاتجاه الآخر.

يبدو أن قناعة رسخت عند جزء واسع من قيادات التيار أن النهضة تُتقن لعب دور المحرّك والمسيطر فيما تترك لحلفائها المرتبة الثانية وما تلاها ويبدو أن التيار مل هذا الدور
ويبدو أن هناك عوامل داخل النهضة ذاتها ساعدت التيار الديمقراطي على اتخاذ هذا القرار فحديث قيادات بارزة في التيار عن أن “النهضة نهضات” وأن “نهضة الغنوشي لا تشبه نهضات أخرى”. والتصعيد في مواجهة الغنوشي ومقربين منه مثل رئيس كتلة النهضة في البرلمان نور الدين البحيري في مقابل خطاب هادئ ويميل للتلاقي مع قيادات نهضوية أخرى خاصة من عُرف منها بمعارضته توجهات الغنوشي داخليًا، كلها مؤشرات أن التيار الديمقراطي أعلن قطيعة مع “نهضة الغنوشي” لا مع النهضة كحزب بشكل عام كما هو الحال بالنسبة لمواقف أحزاب أخرى على غرار حزب عبير موسي مثلًا.

بقاء الغنوشي إذًا وفشل محاولة سحب الثقة منه على رأس البرلمان يُعزز تواصل هذا التحالف/ الالتقاء بين مكونات لا تبدو متجانسة، لكن هذه التحالفات الهجينة تبدو ميزة المرحلة بشكل عام، إذ لا يختلف الحال كثيرًا عند التحالف الثاني (النهضة/ قلب تونس).

ما يبدو ثابتًا، بعد التصويت الأخير على لائحة سحب الثقة، ووفق التوازنات الحالية، أن قطيعة حصلت وصارت نهائية بين النهضة برئاستها والوجوه الرئيسية فيها حاليًا وحلفاء الأمس أساسًا حزب التيار. والثابت أيضًا أن محاولة إظهار النهضة في صورة الحزب المعزول، خلال التصويت الأخير، قد فشلت أيضًا ولو جزئيًا بعد حفاظ قلب تونس أو الجزء الأبرز منه على الأقل على دعم ظاهري للنهضة.

أعلن التيار الديمقراطي قطيعة مع “نهضة الغنوشي” لا مع النهضة كحزب بشكل عام كما هو الحال بالنسبة لمواقف أحزاب أخرى على غرار حزب عبير موسي مثلًا
بعيدًا عن المشهد البرلماني، أي انعكاسات منتظرة لتصويت الخميس الماضي على حكومة هشام المشيشي المنتظرة؟ لا انعكاسات مباشرة طبعًا لكن بشكل غير مباشر يمكن الحديث عن فرضيات وفي كل فرضية قد يختلف تأثير نتائج التصويت على اللائحة حسب دور الأحزاب في هذه الفرضية.

يبدو أن الجزم في شكل الحكومة وتركيبتها لا يزال مبكرًا نوعًا ما، خاصة والمشيشي لم يقابل بعد ممثلي الأحزاب وربما كان هذا مقصودًا ومرتبًا من قبله، واكتفى إلى حد الآن بلقاء عدد من ممثلي المنظمات الوطنية وبعض الجمعيات والنقابات والشخصيات المستقلة. لم يقابل المشيشي أي حزب وكأنه انتظر، هو وساكن قرطاج قيس سعيّد، مخرجات جلسة سحب الثقة وما قد تأتي به من جديد.

إذا اتجه المشيشي نحو حكومة كفاءات غير متحزبة، وهو سيناريو يتم الترويج له بقوة، وهو الأكثر ترجيحًا الآن، لكي يخرج الرجل عن دائرة الأحزاب وشروطها وطلباتها، فالتخوف الوحيد هو من أن لا تتجه هذه الأحزاب للتصويت لصالح حكومته، لكن هذا سيناريو قليل الحظوظ فلا أحد يريد المغامرة بالاتجاه نحو حل البرلمان وإعادة الانتخابات في هذا الظرف بالذات ووفق ذات القانون الانتخابي.

خلال التصويت الأخير، فشلت محاولة إظهار النهضة في صورة الحزب المعزول ولو جزئيًا بعد حفاظ قلب تونس أو الجزء الأبرز منه على دعم ظاهري للنهضة
أما إذا توجه المشيشي نحو حكومة من المتحزبين، فستؤثر هنا نتائج جلسة الخميس الماضي بشكل لافت. أي أحزاب سيختار؟ أمامه معسكرين، لا يملك أيهما أغلبية مريحة ويمكن أن يوفر حزامًا للحكومة القادمة يساعدها على تمرير القوانين بسهولة مثلًا داخل البرلمان، كما لكل معسكر طلبات ولاءات.

إذا اختار المشيشي حكومة عمادها وزراء من التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس الخ، أي الحلف الذي يُطالب بسحب الثقة من رئيس البرلمان، فنتائج التصويت الأخير تثبت أن هذا الحلف أقليّ ولا يمتلك حتى الأغلبية المطلقة 109 صوتًا فكيف سيمرر حكومته؟

وهذا الحلف يرتكز على لاءات عديدة أهمها “النهضة خارج الحكومة” وإلا خسر أصوات الدستوري الحر وربما أصوات أخرى وبالتالي فرضية ضم وزراء من النهضة لكسب أصواتها شبه مستحيلة. أما “الجوكر” الذي صار مطمح الجميع ـ قلب تونس ـ فقد أبدى من خلال نتائج التصويت الأخير تمركزه في المعسكر الآخر وإن كان من الواضح توفر حالة من التردد في صفوفه.

الفرضية الثالثة لا تبدو منطقية أبدًا، أي تكوين حكومة بوزراء من شق النهضة/ قلب تونس/ ائتلاف الكرامة أساسًا. هذه الفرضية تتعارض أصلًا مع فلسفة اختيار الرئيس للمشيشي والمنحى الذي اتبعه وتوجهات قصر قرطاج الأخيرة.

لكن هل كان لنتائج التصويت على لائحة سحب الثقة أي تأثير على الرئيس؟ يرى كثيرون أنه الفائز الأكبر بعد جلسة الخميس، على اعتبار أن سعيّد يستفيد من جديد من هذا التشظي البرلماني والصراعات داخل المجلس والتي تقوّض سيطرة البرلمان على المشهد السياسي في نظام شبه برلماني يعطي للمجلس دوراً مركزيًا.

السيناريو الأقرب هو حكومة كفاءات مستقلة، وهي الصيغة المفضلة لسعيّد فهي تعفيه من أن يبدي انحيازًا لأي معسكر وهي صيغة تهمّش دور الأحزاب وتقلصه إلى ما يُشبه “ماكينة للتصويت لا أكثر”
لكن ورغم الاستفادة الحاصلة، أرجح أن سعيّد كان يُفضل نتيجة أخرى. التنافر بين سعيّد والغنوشي في الخيارات والتوجهات والريبة بينهما واضحة للعيان. تجنب رئيس الجمهورية لقاء رئيس البرلمان في مناسبات عديدة ويرى كل طرف في الثاني ندًا له بل خصمًا لا يمكن العمل معه، على الأقل هذا ما يبديه الرئيس علنًا بينما تحاول النهضة، غالبا للوضعية التي وجدت فيها وامتلاك سعيّد معظم أوراق الضغط، تأكيد حسن نيتها ودعوتها للعمل المشترك.

وفق المعطيات الحالية، السيناريو الأقرب هو حكومة كفاءات مستقلة، وهي الصيغة المفضلة لسعيّد فهي تعفيه من أن يبدي انحيازًا لأي معسكر من المذكورين أعلاه عبر إشراك أحزاب دون أخرى. وهي صيغة تهمّش دور الأحزاب وتقلصه إلى ما يُشبه “ماكينة للتصويت لا أكثر”. وهو ما يتماشى مع نظرة سعيّد للأحزاب وما سبق أن صرح به من توقعات عن تلاشي الأحزاب خلال سنوات قليلة قادمة.

في هذه الحالة ستتجاهل هذه الحكومة نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2019، وستتجاهل أيضًا التوازنات السياسية القائمة في المشهد التونسي. وهو ما يطرح أسئلة عدة حول برنامجها الذي ستطبقه، أي دعم ستجد على مستوى البرلمان، أي تفاعل معها من قبل المنظمات الوطنية وخاصة اتحاد الشغل، أكبر مركزية نقابية في تونس. أسئلة ستتضح الإجابات عنها تدريجيًا مع بدء لقاءات المشيشي مع الأحزاب ومزيد الاقتراب من نهاية مهلة الشهر في 25 من أوت.

نائلة الحامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق