تونس: هبات ضخمة.. وتأخر إنجاز المشاريع المتفق عليها مع المانحين!

تحصلت تونس على مدى سنوات ما بعد الثورة على هبات كبيرة لا تقل أهمية عن حجم القروض، من أمريكا وقطر وتركيا والاتحاد الأوروبي الذي يتصدر طليعة الجهات المانحة على مدى السنوات الأخيرة. إذ أفاد باتريس برغاميني سفير الاتحاد الاوروبي بتونس في أفريل/ نيسان 2018 أنه يتم منح تونس يوميًا، ما يقارب 6 مليون دينار في شكل هبات لدعم مشاريع عمومية وخاصة في جميع جهات البلاد، إضافة إلى دعم يقدر بـ 3 مليار دينار على مدى 5 سنوات. وعمومًا استأثر الاتحاد الأوربي بالنصيب الأكبر من الهبات الممنوحة إذ قدم لوحده منذ الثورة إلى حدود 2015 أكثر من 1.7 مليار دينار.
تمنح الهبات عادة في إطار اتفاقيات موقعة بين الحكومة التونسية والدولة الداعمة، أو بين وزارة ما والجهة المانحة. وتختلف بين ما هو في شكل أموال وبين تجهيزات وآلات وعربات وغيرها
وتمنح الهبات عادة في إطار اتفاقيات موقعة بين الحكومة التونسية والدولة الداعمة، أو بين وزارة ما والجهة المانحة. وتختلف بين ما هو مادي في شكل أموال موجهة لدعم وتمويل قطاعات أو مشاريع معينة، وبين تجهيزات وآلات وعربات وغيرها. لكن في المقابل تغيب أرقام رسمية ومفصلة عن حجم تلك الهبات سنويًا أو حجمها جمليًا، أو دراسات عن كيفية صرف تلك الهبات، وما إذا كانت فعلًا قد وجهت لإنجاز مشاريع متفق عليها مع الجهات المانحة. لتبقى عملية التصرف في تلك الهبات خارج نطاق دائرة الشفافية، لاسيما وأنّ أغلب تقارير الهيئات الرقابية الحكومية بالأساس لا تتضمن رصدًا عن كيفية التصرف في الهبات بأنواعها.
اقرأ/ي أيضًا: “ويني فلوس السياحة؟”.. سؤال طرحه الشاذلي العياري لا حسم في إجابته
هبات مهمة خلال السنوات الأخيرة
آخر تلك الهبات التي منحت للحكومة هي التي أعلن عنها رئيس الحكومة يوسف الشاهد إثر لقائه بالرئيس الصيني شي جينبينغ في 5 سبتمبر/ أيلول 2018، إذ تمّ منح تونس هبة صينية تقدر بـ110 مليون دينار ستخصص للمشاريع التنموية والجهوية. فيما أعلن سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس دانيال روبنستين الخميس 13 سبتمبر/ أيلول الجاري عن تخصيص أمريكا لـ49 مليون دولار في شكل هبة لدعم 31 بلدية بـ11 ولاية. كما منح البنك الدولي في نفس اليوم تونس هبة بقيمة 12,5 مليون دولار (34,8 مليون دينار) للمساعدة على إنجاز 5 دراسات فنية في إطار مشروع الربط الكهربائي بين تونس وايطاليا المعروف باسم “الماد”.
على صعيد آخر، تسلمت وزارة الداخلية في جوان/ حزيران الماضي هبة أمريكية تتمثل في تسع مدرعات موجهة للفوج الوطني لمجابهة الإرهاب التابع للإدارة العامة لوحدات التدخل. فيما منحت الوكالة الفرنسية للتنمية تونس هبتين بقيمة إجمالية قدرها 9،78 مليون دينار. وقد تولى التوقيع على الاتفاقيتين رئيس ديوان وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي رشاد بن رمضان ومديرة قسم التعاون مع دول المتوسط والشرق بالوكالة الفرنسية للتنمية ماري إيلان لوازون.
من جهتها، أطلقت سويسرا مؤخرًا استراتيجية تعاون جديدة تشمل إسناد تمويلات لتونس في شكل هبة تقدر 267 مليون دينار، خلال الفترة 2017 /2020، لتعزيز التعاون في مجال التمشي الديمقراطي وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي المندمج والتشغيل والهجرة. وأوضحت وزيرة العدل والأمن السويسرية صيموناتا صوماريغا، أنه تم في إطار الاستراتيجية الجديدة رصد 190 مليون دينار لدعم التصرف في المالية العمومية، وتحسين مناخ الأعمال وتطوير خدمات التزود بالمياه فضلًا عن تنفيذ برنامج يشمل قطاع التكوين والتدريب المهني.
“أنا يقظ”: ملف حوكمة الهبات الأجنبية الواردة على تونس في حاجة أكيدة إلى الدرس والتمحيص والمراجعة والتدقيق
كما منح الاتحاد الأوروبي سابقًا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2015 تونس هبة بقيمة 150 مليون دينار لتطوير القطاع الخاص والتكوين المهني والطاقات الخضراء والنجاعة الطاقية.
فيما وقعت وزارة المرأة والأسرة والطفولة وسفير المملكة الإسبانية بتونس خوان لوباز دوريقا ممثل الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي على اتفاقية هبة مقدرة بـ 65 ألف دينار من أجل التنمية. وأشارت الوزارة في بلاغ صادر عنها إلى أنّ الهبة تمثل دعما للجهود الوطنية في مجال تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء والفتيات في الوسط الريفي في الفترة الممتدة من 2017 إلى 2020. كما تهدف الاتفاقية إلى ضمان الحماية للنساء والفتيات في المناطق الريفية وتعزيز حقوقهنّ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
كما وقع في فيفري/ شباط 2017 صندوق قطر للتنمية وشبكة تونس لريادة الأعمال اليوم عقد تكميلي لاتفاقية الشراكة التي تربط بين صندوق الصداقة القطري الجمعية بهدف توفير القسط الأخير من الهبة المالية المسندة للشبكة والتي تبلغ 1.043.755 دينار تونسي.
من جهتها منحت بريطانيا في أوت/ آب 2017 تونس هبة بقيمة 4.5 مليون جنيه استرليني، بحسب ما أعلن عنه وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أليستر بيرت، مشيرًا إلى أنّ بلاده أسندت تمويلات لفائدة تونس بقيمة 10 مليون جنيه أسترليني خلال سنة 2017 في إطار اتفاقيات لإرساء الحوكمة.
فيما قررت ألمانيا في نوفمبر/ تشرين الأول 2017، أن تقدّم هبة مالية إلى تونس تقدّر بـ100 مليون دينار بعد لقاء جمع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس التونسي الباجي قائد السبسي خلال الدورة الخامسة للقمة الإفريقية الأوروبية المنعقدة بالعاصمة الإيفوارية أبيدجان. وقالت رئاسة الجمهورية التونسية في بلاغ لها إن الهبة ستكون على ثلاث سنوات ومقسمة على جزأين الأول في شكل مبلغ مالي تودع إلى المصرف المركزي التونسي والثاني في شكل مشاريع تتم دراستها بين البلدين.
تلك هي فقط بعض الهبات التي وُقعت بين الدول المانحة والحكومة أو مع بعض الوزارات ومؤسسات الدولة تحت عناوين واضحة وأهداف محددة لصرف تلك الأموال التي تخصص غالبًا لبعث المشاريع ودعم موارد الدولة، لكنّها تبقى خارج دائرة الرقابة يلفها الغموض في التصرف في كثير من الأحيان.
اقرأ/ي أيضًا: “قوانين صندوق النقد الدولي” تؤرق البرلمان التونسي
تعثر في حوكمة الهبات؟
وقد ذكرت منظمة “أنا يقظ” في جانفي/ كانون الثاني 2018 أنّ ملف حوكمة الهبات الأجنبية الواردة على تونس في حاجة أكيدة إلى الدرس والتمحيص والمراجعة والتدقيق، حتى لا تذهب مليارات الدينارات المتدفقة على الحكومات التونسية أدراج النهب أو على الأقل التصرف غير الرشيد.
كما انطلقت منظمة أنا يقظ من وثيقة رسمية صادرة عن وزارة التنمية والتعاون الدولي، ومنشورة على موقع مجلس نواب الشعب ليتبيّن أنّ قيمة هذه الهبات قد بلغت بين جانفي/ كانون الثاني 2011 وجويلية/ تموز 2017، 5.5 مليار دينار أي ما يعادل 15 في المائة من ميزانية تونس لسنة 2017.
ووفق منظمة أنا يقظ فإنّ اللافت في هذه الهبات الأجنبية التي وردت على تونس إبان ثورة 2011 لمساعدة الدولة على إنجاح الانتقال الديمقراطي أنّها تشهد تعثرًا كبيرًا في صرف الأموال، وبالتحديد في ترجمتها إلى مشاريع تنموية وإصلاحية واجتماعية. ولم توفق الوزارات التونسية الحاصلة على هذه الهبات في استكمال 86.7 في المائة من المشاريع المتفق عليها مع المانحين.
أنيس وهابي لـ”الترا تونس”: إذا اكتشفت الجهات المانحة سوء تصرف في الأموال أو عدم إنجاز المشروع الذي منحت الأموال من أجله فإنّها لن تسترجع أموالها ولكنّها ستتوقف عن تقديم هبات
ومن المفارقات المرتبطة بالحوكمة السيئة للهبات الأجنبية، أن تنتفي أسباب الحصول على بعض الهبات الأجنبية دون أن تتمكن بعض الوزارات من صرف قيمة هذه المنح. في هذا السياق يأتي مثال الهبة التي حصلت عليها وزارة الصحة بقيمة مالية تقدّر بمليار دينار من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في أوت/ آب 2011 قصد اقتناء سيارات إسعاف موجهة لمساعدة اللاجئين على الحدود التونسية الليبية.
وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على قبول هذه الهبة لا يزال مشروع اقتناء هذه السيارات في طور الإنجاز، رغم غلق مخيم الشوشة في جوان/ حزيران 2013 وتفكيكه كليًا في منتصف 2017، ما يعني عدم توجيه قيمة المساعدة المالية الأجنبية إلى الموضوع الرئيسي لها.
منظمة أنا يقظ اتصلت بوزارتي الصحة والتنمية والاستثمار الدولي للإطلاع على مدى تقدم إنجاز صفقة اقتناء سيارات الإسعاف موضوع الهبة، ليتبين أن وزارة الصحة قد اقتنت الى حدود نوفمبر/ تشرين الثاني المنقضي 12 سيارة إسعاف فقط من جملة 26 سيارة.
هكذا إذًا يبقى إيفاء السلطات التونسية بتعهداتها إزاء أغلب الدول والأطراف المانحة ضعيفًا ودون المأمول، ما يطرح أكثر من سؤال عن أسباب هذا التعثر في حوكمة هذه المنح الأجنبية في ظل عدم وجود هيكل عمومي مختص في مراقبة هذه الهبات عدا التدخل الرقابي لدائرة المحاسبات بين الفينة والأخرى وفق المنظمة.
غياب تقارير تتعلق بصرف الهبات..
من جهته، قال الخبير المحاسب أنيس وهابي لـ”الترا تونس” إن هناك عدّة أنواع من الهبات، منها ما يذهب للدولة وأخرى توجه لمؤسسات مختلفة سواء حكومية أو جمعيات ومجتمع مدني، مبينًا أنّ الهبات التي تتحصل عليها الدولة تدخل في حسابات الدولة ولا يتصرف فيها خارج هذا الإطار. وأضاف وهابي “لذا حين نتحدث عن جهة مانحة مثلًا كالصين لا تذهب تلك الهبة إلى حساب شخصي لشخص في الدولة، بل تدخل في حساب الدولة، وتخضع إلى مقاييس المتابعة والرقابة. بينما الأموال التي تتحصل عليها المؤسسات الحكومية تكون تحت عناوين مشاريع وتكون عادة مراقبة من مؤسسات الرقابة من الدولة أي هيئة الرقابة المالية وهيئة الرقابة التابعة لرئاسة الحكومة. إضافة إلى رقابة الجهة المانحة، إما بجهة مباشرة أو من خلال تعين مدققين ماليين لمعاينة تطور إنجاز المشاريع والتصرف في الأموال وإعداد تقاريرهم”.
وفي سياق متصل، أوضح الخبير المحاسب أنّه بالنسبة للأموال الموجهة لبعض البرامج مثل مقاومة الهجرة أو الصحة لمقاومة أمراض معينة، فإنّ الجهات المانحة تتابع تنفيذ تلك البرامج ومدى تطور إنجازها، وإذا اكتشفت سوء تصرف في الأموال أو عدم إنجاز المشروع الذي منحت الأموال من أجله، فإنّها لن تسترجع أموالها ولكنّها ستتوقف عن منح هبات.
محمد الصادق جبنون (خبير اقتصادي) لـ”الترا تونس”: لا يجب أن نقع في توظيف مسألة الهبات في الصراع السياسي
كما أشار محدّثنا إلى أنّ ما يتمّ تداوله بخصوص عدم معرفة مصير تلك الهبات حديث فيه كثير من المغالطة لأنّه نابع من نقص الشفافية، إذ من المفروض أنّ تصدر تقارير حول تلك المشاريع مفصلة عن التصرف في الهبات. ولكن لا توجد معلومة شاملة وعمومية للمواطنين مما يجل الرأي العام يشكك في مصير تلك الهبات.
في المقابل، بيّن الخبير الاقتصادي محمد الصادق جبنون لـ”الترا تونس” أنّ الهبات موجودة منذ الاستقلال، وعادة يتمّ توجيهها إما لدعم الميزانية أو لمشاريع تنموية، مبرزًا أنه منذ 2011 إلى الفترة الانتقالية الأولى كانت الهبات تذهب إلى ميزانية التصرف ثمّ بحكم الانضباط المالي المطلوب من قبل الجهات الأجنبية المانحة وصندوق النقد الدولي أصبحت الأمور عادة مضبوطة بقانون الميزانية وتوجه الهبات إلى مشاريع محددة إلا إذا كانت من البداية موجهة لمساندة الميزانية أو إلى نفقات التصرف.
وأضاف جبنون “لذا لا يجب أن نقع في توظيف المسألة في الصراع السياسي. نفقات الدولة موثقة بالأساس في قانون المالية وفي قانون ختم الميزانية، لكن من ناحية تطوير هذه القوانين فيما يتعلّق بالقانون الأساسي الجديد للمالية العمومية وفي القانون الأساسي في الميزانية، فإنّه مازال في أدراج البرلمان تقريبًا منذ سنة 2012 والذي يعطي قراءة أكثر وضوحًا وتطابقًا مع قواعد الحوكمة والشفافية مازال لم يمر بعد على مجلس النواب نظرًا للبطء الموجود في نسق إصدار القوانين”.

الترا تونس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق