نجم الدين شعبان للباجي: نظارات بورقيبة لا تصنع نظرة بورقيبة

حول تقرير لجنة الحريات كتب نجم الدين شعبان( كاتب و صحفي ):

أخيرا،  طلعت علينا ما يسمى بلجنة الحريات الفردية والمساواة بتقرير في 235 صفحة مرفق بمشروع قانون لتغيير عدة أحكام مرتبطة بمجلة الأحوال الشخصية في تونس. توقيت التقرير جاء استباقيا، في 12 جوان 2018، اي قبل عيد الفطر المبارك بثلاثة أيام، لتمريره والناس صيام، ونخشى الآن ان يمرر المشروع والنواب بالبرلمان في إجازة صيفية، ويفرض الأمر الواقع على شعبنا. تعالوا لنبدأ بملاحظات شكلية حول هذه اللجنة وتوقيت عملها: انتفاء أية صفة قانونية او دستورية لهذه اللجنة: لجنة الحريات الفردية والمساواة: عنوان برّاق لهيئة أحدثها رئيس الجمهورية الحالي، داخل قصره العاجي بقرطاج لتفصل في قضايا اجتماعية عجز عن حلها – أو فرضها- الرئيس بورقيبة. هذه الهيئة ليس لها أية صفة قانونية ولم يفوضها الشعب لتبت في مسائل على غاية من الحساسية بالنسبة للشعب التونسي المسلم الذي ثار على الظلم والاستبداد ولم يطالب البتة أثناء ثورته بتغيير نظام الأسرة التونسية. لذا فإن ما قدمته هذه اللجنة من توصيات لا يلزم إلا أصحابها. إن صاحب الشرعية في هذه المسائل هو الشعب التونسي، ولئن فوض نواب مجلس الشعب فذلك في حدود ما جاء من احكام في دستور 2014، اما فيما عدى ذلك من قضايا خلافية فيجب العودة لصاحب السيادة، وهو الشعب سواء عبر الحوار أو الاستفتاء. تحويل الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الخانقة بما أن مسألة المساواة في الإرث بين الرجل والمراة قد قفزت الى طليعة اهتمامات الحكومة ورئيس الدولة في تونس، فقد يذهب الظن بالبعض وخاصة المتابعين للشأن التونسي عن بعد، أن المؤشرات الاقتصادية قد تحسنت بشكل غير مسبوق وأن قيمة الدينار قد صعدت أمام العملات الأجنبية بطريقة صاروخية وتم تجاوز العجز التجاري ونشط الاقتصاد وارتفع الدخل الفردي للمواطن التونسي، وخلقت الثروة لدى العائلات التونسية وحان الوقت الآن لاقتسام هذه الثروة بالتساوي بين الأخ والأخت. طبعا لم يحدث شيء من هذا فالمؤشرات الاقتصادية تجاوزت الخطوط الحمراء وباتت البلاد مهددة بالافلاس، وتهاوت شرائح واسعة في المجتمع تحت عتبة الفقر ولسان حالها يقول ليس لدينا ما نورثه لأبنائنا غير الديون والقروض. ماذا سنترك لأبنائنا لاقتسامه فقد عشنا فقراء ولم تنصفنا الدولة قبل الثورة وبعدها. لم ير بعض المسؤولين الكبار في البلاد إلا توجيه الرأي العام عن القضايا العاجلة والخطيرة التي تمر بها البلاد، والتي زادتها حدة الأزمة السياسية الحالية والخلاف حول ما يعرف بوثيقة قرطاج 2 وإثارة الجدل في مسائل اجتماعية دينية من شأنها مزيد إرباك المجتع وخلق التفرقة بين أفراده مما يعدّ ضربا للسلم الاجتماعية في تونس. إنها محاولة يائسة من رئيس الجمهورية لكسب استحقاقات انتخابية قادمة، عبر التصويت النسوي، لفائدته الشخصية ولعائلته ولحزبه نداء تونس الذي تفرقع الى شظايا كثيرة. ويبدو أن المظاهرة النسوية يوم السبت 10 مارس 2018 المطالبة بالمساواة في الارث والتي لم تستقطب سوى بضع مئات من النساء تقدم رسالة واضحة إلى أن أغلبية المجتمع لا ينساق وراء هذه المطالب ولكن الرئيس لا يبالي بهذه الرسائل. إلى الأستاذ الباجي: نظارات بورقيبة لا تصنع نظرة بورقيبة: لا يزال الشعب التونسي يذكر صورة الأستاذ الباجي قائد السبسي في حملته الانتخابية الرئاسية وهو يغيّر نظاراته للتشبه ببورقيبة، إنه يريد القيام بإنجاز تاريخي يحسب له وهو ما لم يتمكن بورقيبة من فعله ألا وهو المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة. لقد فات سي الباجي أن الزعيم بورقيبة – رغم اختلافنا معه- قد استشار في مناسبتين على الأقل علماء الزيتونة قبل إصدار مجلة الأحوال الشخصية في أوت 1956 (مثل الشيخ عبد العزيز جعيط، والمراسلات بينه وبين كاتب الدولة للعدل احمد المستيري موجودة) وفي الستينات (مع الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وغيره) وتراجع في كل مرة عن تغيير أحكام الميراث التي جاء بها الاسلام. أما وقد تورط السيد الباجي في تكوين لجنة ذات لون إيديولوجي واحد (باستثناء عضو من اليسار الاسلامي) للبت في القضية، فلم يعد له من بد إذا أراد التشبه ببورقيبة ونظرته الثاقبة إلا بالتراجع عن مشروعه. وحتى إن ادعت لجنة الحريات والمساواة بانها استشارت أساتذة من معهد أصول الدين، فذلك من باب ذر الرماد على الأعين، إذ لم تعمل برأيهم رغم معارضتهم الشديدة لتغيير أحكام الميراث. إلى رئيسة اللجنة: أية بشرى وتوصياتك لا تبشر بخير: الى المحامية بشرى بلحاج حميدة التي زجت بنفسها في قضية اجتماعية شائكة والتي تصرح بأن توصيات اللجنة لا تتعارض مع ديننا الحنيف، نقول لها بأن ليس لها الكفاءة العلمية للبت في هذه المسألة التي تخرج عن اختصاصها. ولنا أن نسألها وهي التي تدعي الدفاع عن حقوق المرأة التونسية، أين كانت جمعية النساء الديموقراطيات، التي تنتمي اليها، لما كان البوليس السياسي لنظام بن علي يجرّ نساء تونس من شعرهنّ في الشوارع بعد خلع حجابهنّ؟ أين كنت حين تقطعت السبل بامهات وزوجات السجناء السياسيين بحثا عن أبنائهن وأزواجهن بين سجون الجحيم؟ أم أن الجمعية تمارس سياسة المكيالين، ولا تهتم إلا بالنساء الثريات اللاتي يردن اقتسام الميراث بالنصف، أما النساء المضطهدات والكادحات فلا تلتفت الى مأساتهنّ. ملاحظات اولية حول مضمون التقرير: تعطيل العمل بأحكام الاسلام: كل من يقرأ التقرير في بدايته وهو يتحدث عن الاجتهاد في الدين وعلم المقاصد في الاسلام يذهب به الظن أن أعضاء اللجنة سيكونون أوفياء لمبادئ الاسلام وأحكامه، إلا أنه سرعان ما يكتشف مغالطاتهم وزيفهم، فهم يطلبون العمل ببعض الآيات القرآنية التي تأمر بالعدل والاحسان مقابل التخلي عن العمل بآيات أخرى لا تروق لهم خاصة ما يتعلق بالتنظيم الاجتماعي للأسرة، إذ جاء في التقرير دعوة صريحة للتخلي عن الموانع الدينية للزواج والميراث ورفع القيود الدينية عن الحقوق المدنية. ثم تأتي التوصيات تباعا في اطار ما يرونه دفاعا عن الحريات الفردية ونورد بعضها: إلغاء جريمة اللواط والمساحقة (الشذوذ الجنسي) بين الرّشد. حماية المثليين والمثليات ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين إلغاء منشور غلق المقاهي خلال شهر رمضان تخفيف العقوبات المتعلقة بالآداب العامة مثل البغاء أما توصيات اللجنة فيما يتعلق بالأسرة وإلغاء التمييز بين الرجل والمرأة، فنذكر أهمها: إسناد الطفل لقب أمه الى جانب لقب أبيه التخلي عن العدّة لأنها تمس من مبدإ عدم التمييز، بحيث يمكن للزوجة التي فارقها زوجها بطلاق او مات عنها أن تتزوج من جديد دون انتظار مهلة العدّة وهي ثلاثة أشهر للمطلقة أربعة أشهر وعشرة أيام للأرملة (وعندها تختلط الأنساب). إلغاء المهر عند الزواج لأن فيه إخلال بكرامة المرأة لكن بالمقابل تتناقض اللجنة الموقرة مع نفسها إذ تدعو للابقاء على النفقة لأنها حق للزوجة لا يمكن التخلي عنها..ولا ترى في النفقة إهانة لكرامة المرأة. أما عن الميراث فقد طالب اعضاء اللجنة بتحوير كامل قانون المواريث لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة إلغاء التمييز في المواريث بين الرجل والمرأة الغاءا تاما وذلك بحذف نظام العصبة .. وذكر أعضاء اللجنة :يتعين التخلي عن التنظيم الحالي للمواريث برمته ووضع نظام جديد يضمن تحقيق الانسجام المطلق مع مبدإ عدم التمييز بين الجنسين كما ورد بالدستور والاتفاقات الدولية(صفحة 181 من التقرير). ثم يأتي مشروع قانون للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة ومنعه على بعض أفراد العائلة الموسعة وإسناده للبعض، في استهانة كبيرة للشعب التونسي ومقدساته. أحكام المواريث مسألة اجتماعية وليست تجارية: إن قضية الميراث ليست سياسية بل هي قضية اجتماعية دينية بامتياز، ونترك لأهل الاختصاص صلاحية البت في مسائل فقهية والرد على مقترحات اللجنة، لكننا نتساءل لماذا يصر السياسيون العلمانيون وهم من يريدون فصل الدين عن الدولة على التدخل في مسالة دينية لتغيير أحكام الاسلام فيها. ثم إننا نتساءل عن الخطاب الذي يروجه دعاة (وداعيات) المساواة لماذا هذا الغلو في المساواة باعتراف اللجنة نفسها (صفحة 173) في حديثها عن اسناد الطفل لقب أمه الى جانب لقب أبيه. لم تترك اللجنة شاردة ولا واردة في الحديث عن جميع أشكال المساواة والحريات وذلك للتغطية عن مقترحات الميراث. وكما يقال باللهجة التونسية شيّطو على ما وصّاووهم. ليس من حق اللجنة او غيرها تدمير النظام الاجتماعي بتونس تحت ضغط الاملاءات الخارجية إن الاسلام يطرح منظومة اجتماعية متكاملة تنظم العلاقات بين أفراد الأسرة وتكلف كل طرف بحقوقه وواجباته، ومنها تكليف الرجل بالانفاق على أسرته الصغيرة وعلى والديه وعلى أخته طالما لم تتزوج. لذا وردت أربع حالات فقط يأخذ فيها الرجل ضعف ما تأخذه أخته. في حين نجد حالات كثيرة تحصل فيها المرأة على الميراث ولا يحصل الرجل على شيئ. وحالات أخرى فيها اقتسام الارث بالتساوي. إن تقرير اللجنة ومطالب الجمعيات النسوية يمثل محاولة جديدة لتحويل الأسرة من منظومة اجتماعية الى شركة تجارية يسودها منطق الربح والمال وتقاسم الممتلكات والعلاقات المادية البحتة. إننا نخشى انهيار منظومة القيم بالكامل كما يحدث في دول الشمال بعد ان تم ضرب النواة الأولى في المجتمع وهي الأسرة وذلك تحت عنوان الحداثة احيانا وتحت عنوان الاتفاقات الدولية التي هي في الحقيقة إملاءات خارجية على مجتمعنا مثل الاملاءات الاقتصادية على بلادنا للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد أورد التقرير جدولا بيانيا طويلا فيه مقارنة بين فصول الدستور والقانون التونسي وبنود الاتفاقات الدولية وملاحظات ومقترحات اللجنة لتطبيق هذه الاتفاقيات على حساب أحكام الاسلام. ويتعلل الأعضاء الموقرين بتعلة أن تونس سحبت الاحتراز حول اتفاقية سيداو، في جنح الظلام، فقد فعل الباجي فعلته لما كان وزير أول بعد الثورة باستصدار مرسوم في الغرض يوم 24 أكتوبر2011 اي بعد يوم واحد من اول انتخابات ديموقراطية وقبل تسليم السلطة للأحزاب الفائزة في الانتخابات. إن ما تطرحه لجنة الحريات الفردية والمساواة ليس بالهين، إنه مشروع مجتمع على النمط الغربي المادي- وفق إملاءات خارجية- حيث العلاقات داخل الأسرة مبنية على المال والمتعة والانحلال الأخلاقي، إننا نخشى من إرباك المجتمع التونسي وهو يرزح حاليا تحت معاناة اقتصادية بل قد يؤدي – لا قدر الله- الى زلزال اجتماعي يقود الى ضرب منظومة القيم بالكامل وتحطيم المنظومة الاجتماعية التونسية المبنية على الأسرة المسلمة. وندعو رئاسة الجمهورية الى التراجع عن المشروع والى الحوار لطرح رؤى جديدة لتنظيم مجتمعنا مواكبة لمستجدات عصرنا، وفق مبادئ الاعتدال والوسطية الاسلامية التي عرفت بها بلادنا منذ اصلاحات القرن 19.

المصدر/موقع باب بنات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق